فصل: غيبة المجاهر بالمعصية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


مُجَازَفة

انظر‏:‏ بيع الجزاف‏.‏

مُجَاعَلَة

انظر‏:‏ جعالة‏.‏

مجَاعَة

التّعريف

1 - المجاعة في اللغة‏:‏ من الجوع‏,‏ وهو نقيض الشّبع‏,‏ والفعل جاع يجوع جوعاً وجوعةً ومجاعةً فهو جائع وجوعان‏,‏ والمرأة جوعى‏,‏ والجمع جوعى وجياع وجوّع وجيّع‏.‏ والمجاعة والمجوعة والمجوعة‏:‏ عام الجوع والجدب‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ- الفقر‏:‏

2 - الفَقر والفُقر في اللغة‏:‏ ضد الغنى والفقر الحاجة‏,‏ ورجل فقير من المال وقد فقر فهو فقير‏,‏ والجمع فقراء والأنثى فقيرة‏.‏

والفقير في الاصطلاح‏:‏ من لا يملك شيئاً ألبتّة أو يجد شيئاً يسيراً من مالٍ أو كسبٍ لا يقع موقعاً من كفايته‏.‏

والصّلة بين الفقر والمجاعة هي أنّ الفقر سبب من أسباب المجاعة‏.‏

ب - الجدب‏:‏

3 - الجدب‏:‏ القحط‏,‏ وهو نقيض الخصب‏,‏ وأجدب القوم أصابهم الجدب وأجدبت السّنة صار فيها جدب‏.‏

والجدبة‏:‏ الأرض الّتي ليس بها قليل ولا كثير ولا مرتع ولا كلأ‏.‏

والجدب‏:‏ انقطاع المطر ويبس الأرض‏.‏

والجدب سبب من أسباب المجاعة‏.‏

الحكم الإجمالي

4 - ذكر الفقهاء المجاعة في مواطن متعدّدةٍ من أبواب الفقه منها‏:‏

حل طلب الصّدقة في المجاعة وأفضليّة الصّدقة في المجاعة على حجّ التّطوع‏,‏ وفي إرضاع الطّفل الجائع‏,‏ وحل أكل الميتة‏,‏ ورفع حدّ السّرقة‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلحات‏:‏ ‏(‏صدقة ف 18‏,‏ رضاع ف 17‏,‏ ضرورة ف 8‏,‏ سرقة ف 14‏,‏ سؤال ف 9‏)‏‏.‏

مُجَاهَرة

التّعريف

1 - من معاني المجاهرة في اللغة‏:‏ الإظهار‏,‏ يقال‏:‏ جاهره بالعداوة مجاهرةً وجهاراً أظهرها‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

قال عياض‏:‏ الجهار والإجهار والمجاهرة كله صواب بمعنى الظهور والإظهار‏,‏ يقال‏:‏ جهر وأجهر بقوله وقراءته‏:‏ إذا أظهر وأعلن‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الإظهار‏:‏

2 - من معاني الإظهار في اللغة‏:‏ التّبيين والإبراز بعد الخفاء‏,‏ يقال‏:‏ أظهر الشّيء‏:‏ بيّنه‏,‏ وأظهر فلاناً على السّرّ‏:‏ أطلعه عليه‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

والفرق بين المجاهرة والإظهار‏:‏ أنّ المجاهرة أعم من الإظهار‏.‏

الحكم التّكليفي

3 - المجاهرة قد تكون منهياً عنها‏,‏ كالمجاهرة بالمعصية والتّبجح والافتخار بها بين الأصحاب‏,‏ وقد تكون مشروعةً‏,‏ كمن قوي إخلاصه وصغر النّاس في عينيه واستوى عنده مدحهم وذمهم فيجوز له إظهار الطّاعات‏,‏ لأنّ التّرغيب في الخير خير‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمجاهرة

المجاهرة بالمعاصي

4 - المجاهرة بالمعاصي منهي عنها‏,‏ قال النّبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كل أمّتي معافىً إلا المجاهرين‏,‏ وإنّ من المجاهرة أن يعمل الرّجل باللّيل عملاً ثمّ يصبح وقد ستره اللّه فيقول‏:‏ يا فلان عملت البارحة كذا وكذا‏,‏ وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر اللّه عنه»‏.‏

وقال النّووي‏:‏ يكره لمن ابتلي بمعصية أن يخبر غيره بها‏,‏ بل يقلع عنها ويندم ويعزم أن لا يعود‏,‏ فإن أخبر بها شيخه أو نحوه ممّن يرجو بإخباره أن يعلمه مخرجاً منها‏,‏ أو ما يسلم به من الوقوع في مثلها‏,‏ أو يعرّفه السّبب الّذي أوقعه فيها‏,‏ أو يدعو له‏,‏ أو نحو ذلك فهو حسن‏,‏ وإنّما يكره لانتفاء المصلحة‏,‏ وقال الغزالي‏:‏ الكشف المذموم هو الّذي إذا وقع على وجه المجاهرة والاستهزاء‏,‏ لا على وجه السؤال والاستفتاء‏,‏ بدليل خبر من واقع امرأته في رمضان فجاء فأخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه‏.‏

5 - وجعل ابن جماعة من المجاهرة بالمعصية إفشاء ما يكون بين الزّوجين من المباح لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ من أشرّ النّاس عند اللّه منزلةً يوم القيامة الرّجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثمّ ينشر سرّها»، والمراد من نشر السّرّ ذكر ما يقع بين الرّجل وامرأته من أمور الوقاع ووصف تفاصيل ذلك‏,‏ وما يجري من المرأة من قولٍ أو فعلٍ ونحو ذلك‏,‏ وأمّا مجرّد ذكر الوقاع إذا لم يكن لحاجة فذكره مكروه‏,‏ فإن دعت إلى ذكره حاجة وترتّبت عليه فائدة فهو مباح كما لو ادّعت الزّوجة على زوجها أنّه عنّين‏.‏

‏(‏ر‏:‏ إفشاء السّرّ ف 6‏)‏‏.‏

الصّلاة خلف المجاهر بالفسق

6 - يرى الحنفيّة والشّافعيّة أنّه تصح الصّلاة مع الكراهة خلف الفاسق بالجارحة‏,‏ وقالوا‏:‏ من صلّى خلف فاسقٍ يكون محرزاً ثواب الجماعة‏,‏ لكن لا ينال ثواب من يصلّي خلف إمامٍ تقيٍّ‏,‏ ولم يفرّقوا بين ما إذا كان الفاسق مجاهراً بفسقه أو لم يكن كذلك‏.‏

وقال الحطّاب من المالكيّة‏:‏ اختلف في إمامة الفاسق بالجوارح، فقال ابن بزيزة‏:‏ المشهور إعادة من صلّى خلف صاحب كبيرةٍ أبداً‏,‏ وقال الأبهري‏:‏ هذا إذا كان فسقه مجمعاً عليه كالزّنا وترك الطّهارة‏,‏ وإن كان بتأويل أعاد في الوقت‏,‏ وقال اللّخمي‏:‏ إن كان فسقه لا تعلق له بالصّلاة كالزّنا وغصب المال أجزأته‏,‏ لا إن تعلّق بها كالطّهارة‏,‏ وقال ابن حبيبٍ‏:‏ من صلّى خلف شارب الخمر أعاد أبداً‏,‏ إلا أن يكون الوالي الّذي تؤدّى إليه الطّاعة فلا إعادة عليه‏,‏ إلا أن يكون سكران حينئذٍ‏,‏ وسئل ابن أبي زيدٍ عمّن يعمل المعاصي هل يكون إماماً ‏؟‏ فأجاب‏:‏ أمّا المصر والمجاهر فلا‏.‏ والمستور المعترف ببعض الشّيء فالصّلاة خلف الكامل أولى‏,‏ وخلفه لا بأس بها‏.‏

وسئل عمّن يعرف منه الكذب العظيم‏,‏ أو قتّات كذلك‏,‏ هل تجوز إمامته ‏؟‏ فأجاب‏:‏ لا يصلّى خلف المشهور بالكذب والقتّات والمعلن بالكبائر ولا يعيد من صلّى خلفه‏,‏ وأمّا من تكون منه الهفوة والزّلّة فلا يتبع عورات المسلمين‏,‏ وعن مالكٍ‏:‏ من هذا الّذي ليس فيه شيء ‏؟‏ وليس المصر والمجاهر كغيره‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ لا تصح إمامة فاسقٍ مطلقاً‏,‏ سواء كان فسقه بالاعتقاد أو بالأفعال المحرّمة‏,‏ وسواء أعلن فسقه أو أخفاه‏.‏

واختار الشّيخان أنّ البطلان مختص بظاهر الفسق دون خفيّه‏,‏ وقال في الوجيز‏:‏ لا تصح خلف الفاسق المشهور فسقه‏.‏

عيادة المجاهر بمعصية

7 - تسن عيادة مريضٍ مسلمٍ غير مبتدعٍ لحديث أبي هريرة مرفوعاً‏:‏ «خمس تجب للمسلم على أخيه‏:‏ رد السّلام‏,‏ وتشميت العاطس‏,‏ وإجابة الدّعوة‏,‏ وعيادة المريض‏,‏ واتّباع الجنائز»‏.‏

ولا تسن عيادة متجاهرٍ بمعصية إذا مرض ليرتدع ويتوب‏,‏ وقال البهوتي بعد ذكر هذا الحكم‏:‏ وعلم منه أنّ غير المتجاهر بمعصية يعاد‏.‏

الصّلاة على المجاهر بالمعاصي

8 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يصلّى على الفاسق‏.‏

قال ابن يونس من المالكيّة‏:‏ يكره للإمام ولأهل الفضل أن يصلوا على البغاة وأهل البدع‏,‏ قال أبو إسحاق‏:‏ وهذا من باب الرّدع‏,‏ قال‏:‏ ويصلّي عليهم النّاس‏,‏ وكذلك المشتهر بالمعاصي ومن قتل في قصاصٍ أو رجمٍ لا يصلّي عليهم الإمام ولا أهل الفضل‏.‏

وقال تقي الدّين ابن تيميّة‏:‏ ينبغي لأهل الخير أن يهجروا المظهر للمنكر ميّتاً إذا كان فيه كف لأمثاله‏,‏ فيتركون تشييع جنازته‏.‏

وقال الأوزاعي‏:‏ لا يصلّى على الفاسق تصريحاً أو تأويلاً وهو قول عمر بن عبد العزيز‏.‏

‏(‏ر‏:‏ جنائز ف 40‏)‏‏.‏

السّتر على المجاهر بالمعصية

9 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يندب السّتر فيما كان حقاً للّه عزّ وجلّ على المسلم من ذوي الهيئات ونحوهم ممّن لم يعرف بأذى أو فسادٍ‏,‏ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من ستر مسلماً ستره اللّه يوم القيامة»‏.‏

وأمّا المجاهر والمتهتّك فيستحب أن لا يستر عليه‏,‏ بل يظهر حاله للنّاس حتّى يتوقّوه‏,‏ أو يرفعه لوليّ الأمر حتّى يقيم عليه واجبه من حدٍّ أو تعزيرٍ‏,‏ ما لم يخش مفسدةً‏,‏ لأنّ السّتر عليه يطمعه في مزيدٍ من الأذى والفساد‏.‏

قال النّووي‏:‏ من جاهر بفسقه أو بدعته جاز ذكره بما جاهر به دون من لم يجاهر به‏.‏ وللتّفصيل في أحكام ستر عيوب المؤمن‏:‏ ‏(‏ر‏:‏ إفشاء السّرّ ف 10 وستر ف 2‏)‏‏.‏

غيبة المجاهر بالمعصية

10 - الغيبة حرام باتّفاق الفقهاء‏,‏ وذهب بعضهم إلى أنّها من الكبائر‏,‏ إلا أنّ الفقهاء أجازوا غيبة المجاهر بفسقه أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر ومصادرة النّاس وأخذ المكس وجباية الأموال ظلماً وتولّي الأمور الباطلة‏,‏ وقالوا‏:‏ يجوز ذكره بما يجاهر به ويحرم ذكره بغيره من العيوب‏,‏ إلا أن يكون لجوازه سبب آخر‏.‏

قال الخلال‏:‏ أخبرني حرب سمعت أحمد يقول‏:‏ إذا كان الرّجل معلناً بفسقه فليست له غيبة‏.‏ قال ابن مفلحٍ‏:‏ ذكر ابن عبد البرّ في كتاب بهجة المجالس عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ثلاثة لا غيبة فيهم‏:‏ الفاسق المعلن بفسقه وشارب الخمر والسلطان الجائر»‏.‏

هجر من جهر بالمعاصي

11 - يسن هجر من جهر بالمعاصي الفعليّة والقوليّة والاعتقادية‏,‏ وقيل‏:‏ يجب إن ارتدع به‏,‏ وإلا كان مستحباً‏,‏ وقيل‏:‏ يجب هجره مطلقاً إلا من السّلام بعد ثلاثة أيّامٍ‏,‏ وقيل‏:‏ ترك السّلام على من جهر بالمعاصي حتّى يتوب منها فرض كفايةٍ‏,‏ ويكره لبقيّة النّاس تركه‏,‏ وظاهر ما نقل عن أحمد ترك الكلام والسّلام مطلقاً‏.‏

وقال أحمد في رواية حنبلٍ عنه‏:‏ ليس لمن يسكر ويقارف شيئاً من الفواحش حرمة ولا صلة إذا كان معلناً مكاشفاً‏.‏

قال ابن علان في تعليقه على حديث‏:‏ «لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمناً فوق ثلاثٍ‏,‏ فإن مرّت به ثلاث فليلقه فليسلّم عليه‏,‏ فإن ردّ عليه السّلام فقد اشتركا في الأجر‏,‏ وإن لم يردّ عليه فقد باء بالإثم» إذا كان الهجر من المؤمن للمؤمن للّه تعالى بأن ارتكب المهجور بدعةً أو تجاهر بمعصية فليس من هذا في شيءٍ‏,‏ والوعيد لا يتناوله أصلاً‏,‏ بل هو مندوب إليه‏.‏

إجابة دعوة المجاهر بالفسق

12 - يرى جمهور الفقهاء أنّ إجابة الدّعوة إلى الوليمة واجبة‏,‏ وأمّا سائر الدّعوات غير الوليمة فإنّ الإجابة إليها مستحبّة غير واجبةٍ‏.‏

وأمّا الإجابة إلى دعوة المجاهر بالفسق فقد نصّ الحنفيّة وقالوا‏:‏ لا يجيب دعوة الفاسق المعلن‏,‏ ليعلم أنّه غير راضٍ بفسقه‏,‏ وكذا دعوة من كان غالب ماله من حرامٍ ما لم يخبر أنّه حلال‏.‏

إنكار ما يجاهر به من محظوراتٍ ومباحاتٍ

13 - قال ابن الأخوة‏:‏ إذا جاهر رجل بإظهار الخمر فإن كان مسلماً أراقها المحتسب وأدّبه‏,‏ وإن كان ذمّياً أدّب على إظهارها‏,‏ واختلف الفقهاء في إراقتها عليه‏:‏

فذهب أبو حنيفة إلى أنّها لا تراق عليه‏,‏ لأنّها من أموالهم المضمونة في حقوقهم‏.‏

وذهب الشّافعي إلى أنّها تراق عليهم‏,‏ لأنّها لا تضمن عنده في حقّ المسلم ولا الكافر‏.‏

فأمّا المجاهرة بإظهار النّبيذ فعند أبي حنيفة أنّه من الأموال الّتي يقر المسلمون عليها‏,‏ فيمنع من إراقته ومن التّأديب على إظهاره‏.‏

وعند الشّافعيّ أنّه ليس بمال كالخمر وليس في إراقته غرم‏,‏ فيعتبر والي الحسبة شواهد الحال فيه فينهى عن المجاهرة ويزجر عليه ولا يريقه إلا أن يأمره بإراقته حاكم من أهل الاجتهاد‏,‏ لئلا يتوجّه عليه غرم إن حوكم فيه‏.‏

ومن قبيل إنكار ما يجاهر به من مباحاتٍ ما نقله البهوتي عن القاضي من أنّه ينكر على من أكل في رمضان ظاهراً‏,‏ وإن كان هناك عذر‏.‏

قال ابن الأخوة‏:‏ وأمّا المجاهرة بإظهار الملاهي المحرّمة‏,‏ مثل الزّمر والطنبور والعود والصّنج وما أشبه ذلك من آلات الملاهي‏,‏ فعلى المحتسب أن يفصلها حتّى تصير خشباً يصلح لغير الملاهي‏,‏ ويؤدّب على المجاهرة عليها‏,‏ ولا يكسرها إن كان خشبها يصلح لغير الملاهي‏,‏ فإن لم يصلح لغير الملاهي كسرها ولا يجوز بيعها‏,‏ والمنفعة الّتي فيها لمّا كانت محظورةً شرعاً كانت ملحقةً بالمنافع المعدومة‏,‏ وأمّا ما لم يظهر من المحظورات فليس للمحتسب أن يتجسّس عنها‏,‏ ولا أن يهتك الأستار حذراً من الاستسرار بها‏,‏ قال النّبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اجتنبوا هذه القاذورة الّتي نهى اللّه عنها‏,‏ فمن ألمَّ فليستتر بستر اللّه‏,‏ وليتب إلى اللّه‏,‏ فإنّه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب اللّه عزّ وجلّ»

المفاضلة بين المجاهرة بالطّاعات والإسرار بها

14 - جاء في قواعد الأحكام‏:‏ الطّاعات ثلاثة أضربٍ‏:‏

أحدها‏:‏ ما شرع مجهوراً به‏,‏ كالأذان والإقامة والتّكبير والجهر بالقراءة في الصّلاة والخطب الشّرعيّة والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وإقامة الجمعة والجماعات والأعياد والجهاد وعيادة المرضى وتشييع الأموات‏,‏ فهذا لا يمكن إخفاؤه‏.‏ فإن خاف فاعله الرّياء جاهد نفسه في دفعه إلى أن تحضره نيّة إخلاصه فيأتي به مخلصاً كما شرع‏,‏ فيحصل على أجر ذلك الفعل وعلى أجر المجاهد لما فيه من المصلحة المتعدّية‏.‏

الثّاني‏:‏ ما يكون إسراره خيراً من إعلانه كإسرار القراءة في الصّلاة وإسرار أذكارها‏,‏ فهذا إسراره خير من إعلانه‏.‏

الثّالث‏:‏ ما يخفى تارةً ويظهر أخرى كالصّدقات‏,‏ فإن خاف على نفسه الرّياء أو عرف من عادته كان الإخفاء أفضل من الإبداء لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ‏}‏ ومن أمن من الرّياء فله حالان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن لا يكون ممّن يقتدى به‏,‏ فإخفاؤها أفضل إذ لا يأمن من الرّياء عند الإظهار‏,‏ وإن كان ممّن يقتدى به كان الإبداء أولى‏,‏ لما فيه من سدّ خلّة الفقراء مع مصلحة الاقتداء‏,‏ فيكون قد نفع الفقراء بصدقته وبتسببه إلى تصدق الأغنياء عليهم‏,‏ وقد نفع الأغنياء بتسببه إلى اقتدائهم به في نفع الفقراء‏.‏

مُجَاوَرَة

التّعريف

1 - المجاورة في اللغة‏:‏ تقارب المحالّ‏,‏ من قولك‏:‏ أنت جاري وأنا جارك وبيننا جوار والجار من يقرب مسكنه منك‏,‏ وهو من الأسماء المتضايفة‏.‏

قال بعض البلغاء‏:‏ الجوار قرابة بين الجيران‏,‏ ثمّ استعملت المجاورة في موضع الاجتماع مجازاً ويقال‏:‏ جاوره مجاورةً وجواراً من باب قاتل‏,‏ والاسم الجُوار بالضّمّ‏:‏ إذا لاصقه في السّكن‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمجاورة

للمجاورة أحكام متعدّدة نجملها فيما يلي‏:‏

أ - مجاورة الماء لغيره‏:‏

2 - قال جمهور الفقهاء لا يضر في طهوريّة الماء إذا تغيّر بمجاور طاهرٍ غير مختلطٍ به كالعود والدهن‏,‏ على اختلاف أنواعه‏,‏ والشّمع ونحو ذلك من الطّاهرات الصلبة كالكافور والعنبر إذا لم يهلك في الماء ويمع فيه‏,‏ لأنّ تغيره بذلك لكونه تروحاً لا يمنع إطلاق اسم الماء عليه كتغير الماء بجيفة ملقاةٍ على شطّ نهرٍ‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ ولا نعلم في هذه الأنواع خلافاً‏,‏ ثمّ قال‏:‏ وفي معنى المتغيّر بالدهن ما تغيّر بالقطران والزّفت والشّمع‏,‏ لأنّ في ذلك دهنيّةً يتغيّر بها الماء تغير مجاورةٍ فلا يمنع كالدهن‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ الكافور نوعان‏:‏

أحدهما‏:‏ خليط كالدّقيق والزّعفران‏,‏ والثّاني‏:‏ مجاور لا ينماع في الماء فهو كالعود فلذلك قيّد الكافور بالصّلابة وكذا القطران‏.‏

وقال الحطّاب من المالكيّة‏:‏ إنّ الماء إذا تغيّر بمجاورة شيءٍ له فإنّ تغيره بالمجاورة لا يسلبه الطّهوريّة‏,‏ سواء كان المجاور منفصلاً عن الماء أو ملاصقاً له‏,‏ فالأوّل كما لو كان إلى جانب الماء جيفة أو عذرة أو غيرهما فنقلت الرّيح رائحة ذلك إلى الماء فتغيّر ولا خلاف في هذا‏,‏ قال بعضهم‏:‏ ومنه إذا سدّ فم الإناء بشجر ونحوه فتغيّر منه الماء من غير مخالطةٍ لشيء منه‏,‏ وأمّا الثّاني وهو المجاور الملاصق فمثّله ابن الحاجب بالدهن‏,‏ وتبعه المصنّف على ذلك وقيّده بالملاصق‏.‏

ولم يوجد عند الحنفيّة في هذا الموطن لفظ مجاورةٍ وإنّما وجد عندهم لفظ المخالطة‏,‏ فقال الشرنبلاليّ‏:‏ لا يضر تغير أوصاف الماء بجامد خالطه بدون طبخٍ كزعفران وورق شجرٍ‏.‏ وفي اللباب على القدوريّ‏:‏ لو خرج الماء عن طبعه - بالخلط - أو حدث له اسم على حدةٍ لا تجوز به الطّهارة‏.‏

ب - مجاورة الحرمين الشّريفين‏:‏

3 - اختلف الفقهاء في حكم مجاورة الحرمين الشّريفين في مكّة والمدينة المنوّرة‏:‏

فذهب بعض الفقهاء ومنهم أبو حنيفة إلى أنّ المجاورة بمكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة مكروهة‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ وبقول أبي حنيفة قال الخائفون المحتاطون من العلماء كما في الإحياء قال‏:‏ ولا يظن أنّ كراهة القيام تناقض فضل البقعة‏,‏ لأنّ هذه الكراهة علّتها ضعف الخلق وقصورهم عن القيام بحقّ الموضع‏,‏ قال في الفتح‏:‏ وعلى هذا فيجب كون الجوار في المدينة المشرّفة كذلك يعني مكروهاً عنده‏,‏ فإنّ تضاعف السّيّئات‏,‏ أو تعاظمها إن فقد فيها‏,‏ فمخافة السّآمة وقلّة الأدب المفضي إلى الإخلال بوجوب التّوقير والإجلال قائم‏,‏ قال بعضهم‏:‏ وهو وجيه فينبغي أن لا يقيّد بالوثوق اعتباراً للغالب من حال النّاس لا سيّما أهل هذا الزّمان‏.‏

وقال بعض الحنفيّة‏:‏ لا تكره المجاورة بالمدينة المنوّرة وكذا بمكّة المكرّمة لمن يثق بنفسه‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ واختار في اللباب‏:‏ أنّ المجاورة بالمدينة أفضل منها بمكّة المكرّمة‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ عدم المجاورة بمكّة أفضل‏.‏

قال مالك‏:‏ القفل أي الرجوع أفضل من الجوار‏.‏

وذهب الشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة‏:‏ إلى استحباب المجاورة بالحرمين الشّريفين إلا أن يغلب على ظنّه الوقوع في المحظورات‏,‏ أو أن تسقط حرمتهما عنده‏,‏ لما ورد من مضاعفة العمل الصّالح فيهما كحديث‏:‏ «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاةٍ فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام‏,‏ وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاةٍ في هذا»‏.‏

وقال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِّلْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

قال القرطبي‏:‏ جعله مباركاً لتضاعف العمل فيه‏.‏

قال أحمد‏:‏ كيف لنا بالجوار بمكّة ‏؟‏ قال النّبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «واللّه إنّك لخير أرض اللّه وأحب أرض اللّه إلى اللّه‏,‏ ولولا أنّي أخرجت منك ما خرجت»‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ وإنّما كره الجوار بمكّة لمن هاجر منها‏,‏ وجابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما جاور بمكّة وجميع أهل البلاد ومن كان من أهل اليمن ليس بمنزلة من يخرج ويهاجر أي لا بأس به وابن عمر رضي الله عنهما كان يقيم بمكّة قال‏:‏ والمقام بالمدينة أحب إليّ من المقام بمكّة لمن قوي عليه‏,‏ لأنّها مهاجر المسلمين، وقال النّبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يصبر على لأوائها وشدّتها أحد إلا كنت له شهيداً شفيعاً يوم القيامة»‏.‏

ج - استحقاق الشفعة بالمجاورة‏:‏

4 - ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم ثبوت الشفعة بسبب المجاورة‏.‏

وذهب الحنفيّة والثّوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة إلى إثبات الشفعة للجار الملاصق فالمجاورة سبب للشفعة عندهم مثل الشّركة‏.‏

والتّفاصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏شفعة ف 11 وما بعدها‏)‏‏.‏

د - الوصيّة للجار‏:‏

5 - اختلف الفقهاء فيمن يدخل في الوصيّة للجار‏:‏

فقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ لو أوصى لجيرانه فلأربعين داراً من كلّ جانبٍ من جوانب داره الأربعة‏,‏ لحديث‏:‏ «حق الجوار إلى أربعين داراً هكذا وهكذا وهكذا وهكذا‏,‏ وأشار قدّاماً وخلفاً ويميناً وشمالاً»‏.‏

وقال المحلّي نقلاً عن الرّوضة‏:‏ ويقسم المال على عدد الدور لا على عدد سكّانها‏.‏

قال ابن قدامة بعد ذكر الحديث المتقدّم ذكره هذا نص لا يجوز العدول عنه‏,‏ إن صحّ‏,‏ وإن لم يثبت الخبر‏,‏ فالجار هو المقارب‏,‏ ويرجع في ذلك إلى العرف‏.‏

وعند أبي حنيفة هو الملاصق‏,‏ وعند الصّاحبين هو من يسكن في محلّته ويجمعهم مسجد المحلّة‏,‏ وهذا استحسان لكنّ الصّحيح قول الإمام‏,‏ وهو ممّا رجّح فيه القياس على الاستحسان لحديث‏:‏ «الجار أحق بسقبه»‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ لو أوصى لجيرانه فإنّه يعطي الجار وزوجته‏,‏ وأمّا زوجة الموصي فلا تعطى لأنّها ليست جاراً وحد الجار الّذي لا شكّ فيه ما كان يواجهه وما لصق بالمنزل من ورائه وجانبيه والمعتبر في الجار يوم القسم‏,‏ فلو انتقل بعضهم أو كلهم وحدث غيرهم أو بلغ صغير فذلك لمن حضر‏,‏ ولو كانوا يوم الوصيّة قليلاً ثمّ كثروا أعطوا جميعهم‏.‏ والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏وصيّة‏)‏‏.‏

هـ - مجاورة الصّالحين‏:‏

6 - ينبغي للمسلم مجالسة أهل الخير‏,‏ والصّالحين وملازمة مجالسهم والصّبر معهم ومصاحبتهم لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَََلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَََلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا‏}‏‏.‏

وعن سعد بن أبي وقّاصٍ رضي الله عنه قال‏:‏ «كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم ستّة نفرٍ‏,‏ فقال المشركون للنّبيّ صلى الله عليه وسلم أطرد هؤلاء لا يجترئُون علينا، قال‏:‏ وكنت أنا وابن مسعودٍ ورجل من هذيلٍ وبلال ورجلان لست أسمّيهما‏,‏ فوقع في نفس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما شاء اللّه أن يقع‏,‏ فحدّث نفسه‏,‏ فأنزل اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏»‏.‏

قال ابن علان الصّدّيقي من الشّافعيّة‏:‏ مجالسة أهل الخير وهم حزب اللّه المنقطعون إليه اللائذون به الحائزون لشرف العلم والعمل به مع الإخلاص فيه مستحبّة‏,‏ لأنّ من تشبّه بقوم فهو منهم‏,‏ ولأنّهم هم القوم لا يشقى جليسهم قال‏:‏ وأقل ثمرات مجالستهم حفظ نفسه في ذلك الزّمن عن المخالفة لمولاه عزّ وجلّ وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «مثل الجليس الصّالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير‏,‏ فحامل المسك إمّا أن يحذيك‏,‏ وإمّا أن تبتاع منه‏,‏ وإمّا أن تجد منه ريحاً طيّبةً‏,‏ ونافخ الكير إمّا أن يحرق ثيابك‏,‏ وإمّا أن تجد ريحاً خبيثةً» أي فجليس الأخيار إمّا أن يعطى بمجالستهم من الفيوض الإلهيّة أنواع الهبات حياءً وعطاءً‏,‏ وإمّا أن يكتسب من المجالس خيراً وأدباً يكتسبها عنه ويأخذها منه، وإمّا أن يكتسب حسن الثّناء بمخاللته‏,‏ ومخالطته‏,‏ وأمّا جليس السوء فإمّا أن يحترق بشؤم معاصيه كما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً‏}‏ وإمّا أن يدنّس ثناءه بمصاحبته وقد ورد‏:‏ «الرّجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل»‏.‏

مَجْبوب

انظر‏:‏ جب‏.‏

مُجْتَهِد

انظر‏:‏ اجتهاد‏.‏

مَجْذُوم

انظر‏:‏ جذام‏.‏

مَجْرَى الماء

التّعريف

1 - المجرى في اللغة بوزن مفعلٍ‏:‏ ظرف مكانٍ من فعل جرى يجري‏:‏ بمعنى سال خلاف وقف وسكن، والماء الجاري هو‏:‏ المتدافع في انحدارٍ أو في استواءٍ‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

الأحكام المتعلّقة بمجرى الماء

أقسام مجرى الماء

2 - يقسّم الفقهاء مجرى الماء إلى قسمين‏:‏ المجرى العام والمجرى الخاص‏.‏

وأمّا المجرى العام‏:‏ وهو ما لا يختص بأحد‏:‏ بأن يكون في أرضٍ مباحةٍ ولا صنيع للآدميّين في حفره ولا في إجراء الماء فيه كالأنهار الكبيرة كالنّيل والفرات ونحوهما الّتي لا تزاحم فيها لسعتها وكثرة الماء فيها ولا يتضرّر بالتّصرف فيه أحد فهذا لا ملك لأحد على رقبة المجرى، ولا حق خاصاً في الانتفاع بمائه بل الحق فيه عام لجميع المسلمين، فلكلّ أن ينتفع بهذه الأنهار بمختلف أوجه الانتفاع إن لم يضرّ بتصرفه مصلحةً عامّةً للمسلمين، وليس للإمام ولا لغيره منعه إن لم يضرّ أحداً‏.‏

وله نصب رحىً عليه أو داليةً أو ساقيةً، بشرط أن لا يضرّ النّهر وأن يكون مكان البناء ملكاً له أو مواتاً محضاً لا يتعلّق به حق للغير‏.‏

وأمّا المجرى الخاص فهو أن يكون المجرى مملوكاً بأن يحفر نهراً يدخل فيه الماء من الوادي العظيم، أو من النّهر المنخرق منه فالماء باقٍ على إباحته لكنّ مالك النّهر أحق به كالسّيل يدخل ملكه فليس لأحد مزاحمته لسقي الأرضين، وأمّا للشرب والاستعمال وسقي الدّوابّ فليس له المنع‏.‏

والتّفصيل في‏:‏ ‏(‏شرب ف 3 - 9 ومياه ونهر‏)‏‏.‏

إجراء ماءٍ في أرض الغير‏:‏

3 - لا يجوز إجراء ماءٍ في أرض الغير بلا ضرورةٍ بغير إذنه بالاتّفاق لأنّه تصرف في ملك الغير بلا إذنٍ، وإن كان لضرورة كأن تكون له أرض للزّراعة لها ماء لا طريق له إليها إلا أرض جاره فهل له إجراء الماء في أرض جاره لتوصيل الماء إلى أرضه بغير إذن الجار ‏؟‏ اختلف فيه‏:‏

فذهب الشّافعيّة على المذهب وأحمد في إحدى روايتين له ومالك في رواية ابن القاسم واختارها عيسى بن دينارٍ إلى أنّه ليس له ذلك، لأنّ مثل هذه الحاجة لا تبيح له مال غيره، وهي كما لو لم تدع إليه حاجة، بدليل أنّه لا يباح له الزّرع في أرض غيره والبناء فيها ولا الانتفاع بشيء من منافعها المحرّمة عليه قبل هذه الحاجة، فإن أذن له جاز‏.‏

والرّواية الأخرى عن أحمد وقول عن مالكٍ أنّه يجوز له ذلك لما ورد أنّ الضّحّاك بن خليفة ساق خليجاً له من العريض، فأراد أن يمرّ به في أرض محمّد بن مسلمة فأبى محمّد، فقال له الضّحّاك‏:‏ لم تمنعني وهو لك منفعة تشرب به أوّلاً وآخراً ولا يضرك فأبى محمّد، فكلّم فيه الضّحّاك عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فدعا عمر بن الخطّاب محمّد بن مسلمة فأمره أن يخلّي سبيله فقال محمّد‏:‏ لا، فقال عمر‏:‏ لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع، تسقي به أوّلاً وآخراً وهو لا يضرك‏.‏ فقال‏:‏ محمّد‏:‏ لا واللّه، فقال عمر‏:‏ واللّه ليمرّن ولو على بطنك فأمره عمر أن يمرّ به ففعل الضّحّاك‏.‏

ولمالك قول ثالث وهو أنّه يختلف حكم المسألة باختلاف أحوال النّاس، فإذا كان أهل الزّمن كأهل زمن عمر رضي الله عنه يعمهم أو يغلب عليهم الصّلاح والدّين والتّحرج عمّا لا يحل يقضى بإمراره، وإن كان يعم أو يغلب عليهم استحلال أموال النّاس بغير الحقّ وجب أن يحكم بالمنع في ذلك، لأنّه قد يطول الأمر فيدّعي صاحب الماء الممرّ في أرض من قضي له بإمراره في أرضه، فيدّعي ملك رقبة الممرّ أو يدّعي حقوقاً فيه فيشهد له ما قضي له به، فيمنع الإمرار سداً للذّريعة وسد الذّريعة من أدلّة الشّريعة عند المالكيّة وهذه رواية أشهب عنه‏.‏

الصلح على إجراء ماءٍ في أرضٍ مملوكةٍ للغير أو على سطح الجار

4 - قال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إن صالح رجلاً على إجراء ماء سطحه من المطر على سطحه‏,‏ أو في أرضه عن سطحه، أو في أرضه عن أرضه، جاز إذا كان ما يجري ماءً معلوماً إمّا بالمشاهدة وإمّا بمعرفة المساحة، لأنّ الماء يختلف بصغر السّطح وكبره ولا يمكن ضبطه بغير ذلك‏.‏

ويشترط معرفة الموضع الّذي يجري منه الماء إلى السّطح، لأنّ ذلك يختلف ولا يفتقر إلى ذكر مدّةٍ، لأنّ الحاجة تدعو إلى هذا، ويجوز العقد على المنفعة في موضع الحاجة غير مقدّرٍ كما كان في النّكاح‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ أمّا غسّالة الثّياب والأواني فلا يجوز الصلح على إجرائها على مالٍ لأنّه مجهول لا تدعو الحاجة إليه وإن خالف في ذلك البلقيني، وشرط المصالحة على إجراء ماء المطر على سطح غيره‏:‏ أن لا يكون له مصرف إلى الطّريق إلا بمروره على سطح جاره، قاله الإسنوي ومحل الجواز في الثّلج إذا كان في أرض الغير لا في سطحه لما فيه من الضّرر، وليس لمن أذن له في إجراء المطر على السّطح أن يطرح الثّلج عليه ولا أن يترك الثّلج حتّى يذوب ويسيل إليه ومن أذن له في إلقاء الثّلج لا يجري المطر ولا غيره‏.‏

والملك ليس قيداً بل يجوز ذلك في الأرض الموقوفة والمستأجرة لكن يعتبر هنا التّأقيت، لأنّ الأرض غير مملوكةٍ فلا يمكنه العقد عليها مطلقاً‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إن كان السّطح الّذي يجري عليه الماء مستأجراً أو عاريةً مع إنسانٍ لم يجز أن يصالح على إجراء الماء عليه لأنّه يتضرّر بذلك، ولم يؤذن له فيه‏.‏

تغير الماء بطاهر في مجراه

5 - إذا تغيّر الماء بطاهر في مجراه تغيراً لا يمنع إطلاق اسم الماء عليه فلا يسلب الطّهوريّة في الماء فيصح التّطهر به لتعذر صون الماء عمّا ذكر‏.‏

ر‏:‏ مصطلح‏:‏ ‏(‏تغيير ف 3‏)‏‏.‏

مَجْلِس

التّعريف

1 - المجلِس - بكسر اللام - موضع الجلوس وبفتحها‏:‏ مصدر والجلوس‏:‏ القعود وهو نقيض القيام‏.‏

والجِلسة‏:‏ الحال الّتي يكون عليها الجالس‏.‏

والجليس‏:‏ من يجالسك فعيل بمعنى فاعلٍ‏.‏

وجمع المجلس‏:‏ مجالس‏.‏

وقد يطلق المجلس على أهله مجازاً تسميةً للحال باسم المحلّ فيقال‏:‏ اتّفق المجلس‏.‏ وتستعمل المجالس بمعنى الجلوس كما في حديث‏:‏ «فإذا أتيتم إلى المجالس‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الحلقة‏:‏

2 - الحلقة‏:‏ الجماعة من النّاس مستديرون كحلقة الباب وغيرها‏.‏

والتّحلق‏:‏ على وزن تفعلٍ وهو تعمد الجلوس مستديرين كالحلقة‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

والصّلة أنّ المجلس قد يكون على هيئة الحلقة‏.‏

صفة المجلس وهيئة أهله

3 - لم تفرض في المجلس صفة معيّنة وإنّما شرعت له آداب، وهناك إشارات تدل على أنّ بعض مجالس السّلف كانت بصفة الحلقة، وكان النّبي صلى الله عليه وسلم يرشد إلى توسعة المجلس، فعن أبي سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «خير المجالس أوسعها»، وكان عمر يقول‏:‏ يصفي لك ودّ أخيك ثلاث‏.‏‏.‏‏.‏ ويعد منها أن توسّع له في المجلس‏.‏

أمّا هيئة الجالس مع غيره فلم يمنع منها إلا ما كان مفضياً إلى كشف العورة أو جزءٍ منها‏.‏ وهناك هيئة في الجلوس تدل على التّكبر والتّجبر والقسوة نهى عنها الرّسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشّريد بن سويد رضي الله عنه قال‏:‏ «مرّ بي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأنا جالس، وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري واتّكأت على ألية يدي، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ أتقعد قعدة المغضوب عليهم»‏.‏

وأخرجه ابن حبّان بزيادة‏:‏ قال ابن جريجٍ‏:‏ وضع راحتيك على الأرض‏.‏

قال العظيم آبادي‏:‏ الأَلية بفتح الهمزة‏:‏ اللّحمة الّتي في أصل الإبهام وقال‏:‏ الأظهر أن يراد بالمغضوب عليهم أعم من الكفّار والفجّار المتكبّرين المتجبّرين ممّن تظهر آثار العجب والكبر عليهم من قعودهم ومشيهم ونحوهما‏.‏

وللجلوس للأكل هيئات وآداب مستحبّة منها‏:‏ عدم الاتّكاء في الجلسة‏.‏

والتّفصيل في‏:‏ ‏(‏أكل ف 19‏)‏‏.‏

4 - وممّا عرف من هيئات جلوس الرّسول صلى الله عليه وسلم‏:‏

أ - التّربع ففي حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه‏:‏ «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا صلّى الفجر تربّع في مجلسه حتّى تطلع الشّمس حسناء»‏.‏

ب - الاتّكاء وقد أشارت إليه أحاديث منها حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه‏:‏ «رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم متّكئاً على وسادةٍ»‏.‏

قال الخطّابي‏:‏ كل معتمدٍ على شيءٍ متمكّنٍ منه فهو متّكئ‏.‏

قال المهلّب‏:‏ يجوز للعالم والمفتي والإمام الاتّكاء في مجلسه بحضرة النّاس لألم يجده في بعض أعضائه أو لراحة يرتفق بذلك، ولا يكون ذلك في عامّة جلوسه‏.‏

ج - الاضطجاع وهو‏:‏ وضع الجنب على الأرض فقد ورد من حديث عائشة رضي الله عنها‏:‏ «كان النّبي إذا صلّى ركعتي الفجر اضطجع على شقّه الأيمن»‏.‏

د - الاحتباء‏:‏ وهو أن يجلس على أليتيه رافعاً ركبتيه محتوياً عليهما بيديه أو غيرهما‏.‏ فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ «رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة محتبياً بيده هكذا‏.‏‏.‏»‏.‏

هـ - الاستلقاء هو الاضطجاع على القفا ووضع الظّهر على الأرض سواء كان معه نوم أم لا فعن عبّاد بن تميمٍ عن عمّه‏:‏ «أنّه رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم مستلقياً في المسجد واضعاً إحدى رجليه على الأخرى»‏.‏

وقد عرف من عادة الرّسول صلى الله عليه وسلم أنّه كان يجلس بين أصحابه بالوقار التّامّ فما ورد من استلقائه عليه السلام إنّما كان لبيان الجواز وكان في وقت الاستراحة لا عند مجتمع النّاس‏.‏

مكان المجلس

5 - تعقد المجالس في كلّ مكانٍ مناسبٍ لها، مع مراعاة المصالح وتجنب الأماكن الّتي قد يفضي الجلوس بها إلى مفاسد ومضارّ‏.‏

وصرّح جمهور الفقهاء بأنّه يكره الجلوس على الطرقات، واستدلوا بما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اجتنبوا مجالس الصّعدات، فقلنا‏:‏ إنّما قعدنا لغير ما بأسٍ، قعدنا نتذاكر ونتحدّث، قال‏:‏ أما لا فأدوا حقّها‏:‏ غضوا البصر، وردوا السّلام، وحسّنوا الكلام»‏.‏

وزاد أبو داود ‏"‏ وإرشاد السّبيل ‏"‏ وفي روايةٍ له أيضاً‏:‏ «وتغيثوا الملهوف وتهدوا الضّالّ»‏.‏

ولما فيه من التّعرض للفتن والأذى‏.‏

قال ابن مفلحٍ‏:‏ أمّا الطّريق الواسع فالمروءة والنّزاهة اجتناب الجلوس فيه، فإن جلس كان عليه أن يؤدّي حقّ الطّريق‏:‏ غض البصر، وإرشاد الضّالّ، ورد السّلام، وجمع اللقطة للتّعريف، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، ومن جلس ولم يعط الطّريق حقّها فقد استهدف لأذيّة النّاس‏.‏

آداب المجلس

من آداب المجلس ما يلي‏:‏

أ - التّفسح في المجلس وعدم الجلوس وسط الحلقة‏:‏

6 - صرّح جمهور الفقهاء بأنّه يكره الجلوس في وسط الحلقة، كحلقة الذّكر والعلم والطّعام وغير ذلك، واستدلوا بما روي‏:‏ «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لعن من جلس وسط الحلقة»، وكان أحمد بن حنبلٍ إذا كان في الحلقة فجاء رجل فقعد خلفه يتأخّر، قال ابن مفلحٍ‏:‏ يعني أنّه يكره أن يكون في وسط الحلقة، ويتوجّه تحريم ذلك‏.‏

والجلوس في وسط الحلقة معناه‏:‏ أن يأتي حلقةً فيتخطّى رقاب النّاس ويقعد وسط القوم ولا يقعد حيث ينتهي المجلس أو أن يقعد وسط الحلقة مقابلاً بين وجوه المتحلّقين فيحجب بعضهم عن بعضٍ وإنّما لعن لأنّهم يلعنونه ويذمونه لتأذّيهم‏.‏

وقيل‏:‏ اللّعن مختص بمن يجلس استهزاءً كالمضحك وبمن يجلس لأخذ العلم نفاقاً‏.‏

ب - تجنب إقامة شخصٍ من مجلسه‏:‏

7 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه يكره للمصلّي تخصيص مكانٍ لنفسه في المسجد لأنّه يخل بالخشوع، أي لأنّه إذا اعتاده ثمّ صلّى في غيره يبقى باله مشغولاً بالأوّل، بخلاف ما إذا لم يألف مكاناً معيّناً‏.‏

وقالوا‏:‏ ليس لمن له في المسجد موضع معيّن يواظب عليه - ولو مدرّساً - وقد شغله غيره إزعاج هذا الغير منه، لأنّ المسجد ليس ملكاً لأحد، قال ابن عابدين‏:‏ وينبغي تقييده بما إذا لم يقم عنه على نيّة العود بلا مهلةٍ، كما لو قام للوضوء مثلاً، ولا سيّما إذا وضع فيه ثوبه لتحقق سبق يده‏.‏

وقال الخير الرّملي‏:‏ مثل المسجد مقاعد الأسواق الّتي يتّخذها المحترفون‏:‏ من سبق لها فهو الأحق بها، وليس لمتّخذها أن يزعجه إذ لا حقّ له فيها ما دام فيها، فإذا قام عنها استوى هو وغيره فيها مطلقاً، قال ابن عابدين‏:‏ والمراد بها - بالمقاعد - الّتي لا تضر العامّة وإلا أزعج فيها مطلقاً‏.‏

وصرّحوا بأنّه إذا ضاق المسجد فللمصلّي إزعاج القاعد ولو مشتغلاً بقراءة أو درسٍ، وكذا إذا لم يضق لكن في قعود القاعد قطع للصّفّ‏.‏

وفي شرح السّير الكبير للسّرخسيّ‏:‏ وكذا كل ما يكون المسلمون فيه سواءً، كالنزول في الرّباطات، والجلوس في المساجد للصّلاة والنزول بمنى أو عرفاتٍ للحجّ حتّى لو ضرب فسطاطه في مكانٍ كان ينزل فيه غيره فهو أحق، وليس للآخر أن يحوّله، فإن أخذ موضعاً فوق ما يحتاجه فللغير أخذ الزّائد منه‏.‏

وسئل مالك عن الرّجل يقوم من المجلس فقيل له‏:‏ إنّ بعض النّاس يزعم أنّه إذا قام الرّجل من مجلسه ثمّ رجع إليه إنّه أحق به، فقال‏:‏ سمعت في ذلك شيئاً، وإنّه لحسن إن كان إتيانه قريباً، وإن تباعد ذلك حتّى يذهب بعيداً ونحو ذلك فلا أرى ذلك له، وإنّ هذا لمن محاسن الأخلاق، قال محمّد بن رشدٍ معناه‏:‏ إذا قام عنه على أن لا يرجع إليه وأمّا إن قام عنه على أن يرجع إليه فهو أحق به إن رجع بالقرب، فتحصيل هذا أنّه إن قام عنه على أن لا يرجع إليه فرجع بالقرب، حسن أن يقوم له عنه من جلس بعده فيه، وإن لم يرجع بالقرب لم يكن ذلك عليه في الاستحسان، وإن قام عنه على أن يعود إليه فعاد إليه بالقرب كان أحقّ به، ووجب على من جلس فيه بعده أن يقوم له عنه، وإن لم يعد إليه بالقرب، حسن أن يقوم له عنه من جلس فيه بعده ولم يجب ذلك عليه‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ يحرم أن يقيم أحداً ولو في غير المسجد ليجلس مكانه لخبر‏:‏ «نهى أن يقام الرّجل من مجلسه ويجلس فيه آخر ولكن تفسّحوا وتوسّعوا»‏.‏

فإن قام الجالس باختياره وأجلس غيره فلا كراهة في جلوس غيره، وأمّا هو فإن انتقل إلى مكانٍ أقرب إلى الإمام أو مثله لم يكره، وإلا كره إن لم يكن عذر كإيثار نحو عالمٍ وقارئٍ لأنّ الإيثار بالقرب مكروه‏.‏

وقال النّووي‏:‏ استثنى أصحابنا من ألف من المسجد موضعاً يفتي فيه أو يقرئ فيه قرآناً أو علماً فله أن يقيم من سبقه إلى القعود فيه وفي معناه - كما قال ابن حجرٍ - من سبق إلى موضعٍ من الشّوارع ومقاعد الأسواق لمعاملة‏.‏

ويجوز أن يبعث من يقعد له في مكانٍ ليقوم عنه إذا جاء هو‏.‏

وإذا فرش لأحد ثوب أو نحوه فلغيره تنحيته والصّلاة مكانه لا الجلوس عليه بغير رضا صاحبه ولا يرفعه بيده أو غيرها لئلّا يدخل في ضمانه‏.‏

ومن جلس في موضعٍ من المسجد أو غيره لصلاة مثلاً ثمّ فارقه ليعود إليه - بعد وضوءٍ مثلاً أو شغلٍ يسيرٍ - لا يبطل اختصاصه به، وله أن يقيم من قعد فيه، وعلى القاعد أن يطيعه وجوباً على الأصحّ وقيل‏:‏ يستحب‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ يحرم أن يقيم غيره فيجلس مكانه، ولو عبده الكبير أو ولده الكبير لأنّه ليس بمال، وإنّما هو حق ديني فاستوى فيه السّيّد وعبده، والوالد وولده، أو كانت عادته الصّلاة فيه، حتّى المعلّم ونحوه كالمفتي والمحدّث ومن يجلس للمذاكرة في الفقه إذا جلس إنسان موضع حلقته حرم عليه إقامته لما روى ابن عمر رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «نهى أن يقام الرّجل من مجلسه ويجلس فيه آخر ولكن تفسّحوا وتوسّعوا» ولكن يقول‏:‏ افسحوا ولأنّ المسجد بيت اللّه والنّاس فيه سواء إلا الصّغير فيؤخّر‏.‏

وقواعد المذهب‏:‏ تقتضي عدم صحّة صلاة من أخّر مكلّفاً وجلس مكانه، لشبهه الغاصب إلا من جلس بموضع يحفظه لغيره بإذنه أو دونه لأنّ النّائب يقوم باختياره، ولأنّه قعد فيه لحفظه له ولا يحصل ذلك إلا بإقامته، لكن إن جلس في مكان الإمام أو طريق المارّة أو استقبل المصلّين في مكانٍ ضيّقٍ أقيم‏.‏

ويكره إيثاره غيره بمكانه الأفضل كالصّفّ الأوّل ونحوه وكيمين الإمام ويتحوّل إلى ما دونه، لما في ذلك من الرّغبة عن المكان الأفضل، وظاهره‏:‏ ولو آثر به والده ونحوه، ولا يكره للمؤثر قبول المكان الأفضل ولا رده، فلو آثر - الجالس بمكان أفضل - زيداً فسبقه إليه عمرو، حرم على عمرٍو سبقه إليه، وإن وجد مصلّىً مفروشاً فليس له رفعه لأنّه كالنّائب عنه، ولما فيه من الافتيات على صاحبه والتّصرف في ملكه بغير إذنه والإفضاء إلى الخصومة، وقاسه في الشّرح على رحبة المسجد ومقاعد الأسواق ما لم تحضر الصّلاة فله رفعه والصّلاة مكانه، لأنّه لا حرمة له بنفسه وإنّما الحرمة لربّه ولم يحضر، ولا الجلوس ولا الصّلاة عليه‏.‏

قال في الفروع‏:‏ ويتوجّه إن حرم رفعه فله فرشه، وإلا كره ومنع من الفرش الشّيخ، لتحجره مكاناً من المسجد، ومن قام من موضعه من المسجد لعارض لحقه ثمّ عاد إليه قريباً، فهو أحق به لما روي عن أبي أيوب رضي الله عنه مرفوعاً‏:‏ «من قام من مجلسه ثمّ رجع إليه فهو أحق به» وقيّده في الوجيز بما إذا عاد ولم يتشاغل بغيره ما لم يكن صبياً قام في صفٍّ فاضلٍ أو في وسط الصّفّ ثمّ قام لعارض ثمّ عاد، فيؤخّر كما لو لم يقم منه بالأولى فإن لم يصل العائد إليه إلا بالتّخطّي جاز له التّخطّي كمن رأى فرجةً لا يصل إليها إلا به‏.‏

ج - السّلام‏:‏

8 - قال الماورديّ‏:‏ لو دخل شخص مجلساً، فإن كان الجمع قليلاً يعمهم سلام واحد فسلّم كفاه، فإن زاد فخصّص بعضهم فلا بأس، ويكفي أن يردّ منهم واحد فإن زاد فلا بأس، وإن كانوا كثيراً بحيث لا ينتشر فيهم فيبتدأ أوّل دخوله إذا شاهدهم وتتأدّى سنّة السّلام في حقّ جميع من يسمعه، ويجب على من سمعه الرّد على الكفاية، وإذا جلس سقط عنه سنّة السّلام فيمن لم يسمعه من الباقين‏.‏

وفي مجلس القضاء لا يسلّم القاضي على الخصوم ولا هم يسلّمون عليه لأنّهم لو سلّموا عليه لا يلزمه الرّد وذلك لأنّه اشتغل بأمر هو أعظم وأهم‏.‏

ومن قام من المجلس فعليه أن يسلّم أيضاً فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا انتهى أحدكم إلى مجلسٍ فليسلّم، فإن بدا له أن يجلس فليجلس، ثمّ إذا قام فليسلّم، فليست الأولى بأحقّ من الآخرة»‏.‏

كفّارة المجلس والدعاء فيه

9 - يستحب للرّجل إذا قام من مجلسه أن يقول‏:‏ سبحانك اللّهمّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك فإنّه يغفر له ما كان في مجلسه، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من جلس في مجلسٍ فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك‏:‏ سبحانك اللّهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك»‏.‏

واحتجّ أبو بكرٍ الآجري في كفّارة المجلس بما رواه جبير بن مطعمٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «كفّارة المجلس أن لا يقوم حتّى يقول‏:‏ سبحانك اللّهمّ وبحمدك لا إله إلا أنت تب عليّ واغفر لي» يقولها ثلاث مرّاتٍ، فإن كان مجلس لغطٍ كانت كفّارةً له، وإن كان مجلس ذكرٍ كانت طابعاً عليه‏.‏

وروي عن جماعةٍ من أهل العلم منهم مجاهد وأبو الأحوص ويحيى بن جعدة وعطاء قالوا‏:‏ في تأويل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ‏}‏ أي‏:‏ حين تقوم من مجلسٍ تقول‏:‏ سبحانك اللّهمّ وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك، وقالوا‏:‏ من قالها غفر اللّه له ما كان في المجلس، وقال عطاء‏:‏ إن كنت أحسنت ازددت إحساناً وإن كنت غير ذلك كان كفّارةً‏.‏

قال ابن علان في شرح حديث أبي هريرة‏:‏ عمومه مخصوص بما عدا الكبائر فإنّها لا تكفّر إلا بالتّوبة أو بالفضل الإلهيّ، وبما عدا تبعات العباد، لأنّ إسقاطها عند التّلوث بها موقوف على رضا ذي الحقّ وهذا التّخصيص مأخوذ من أحاديث أخر‏.‏

ثمّ قال‏:‏ وإنّما ترتّب على هذا الذّكر غفر ما كسب في ذلك المجلس لما فيه من تنزيه المولى سبحانه والثّناء عليه بإحسانه والشّهادة بتوحيده، ثمّ سؤال المغفرة من جنابه وهو الّذي لا يخيّب قاصد بابه‏.‏

أمانة المجلس

10 - قال الخادمي في شرح حديث‏:‏ «المجالس بالأمانة» أي لا يشيع حديث جليسه، وفيه إشارة إلى مجالسة أهل الأمانة وتجنب أهل الخيانة، وعن العسكريّ‏:‏ يريد أنّ الرّجل يجلس إلى القوم فيخوضون في حديثٍ ربّما كان فيه ما يكرهون، فيأمنونه على سرّهم، فذلك الحديث كالأمانة عنده، وفسّر أيضاً‏:‏ بأنّ المجالس إنّما تحسن بالأمانة لحاضريها على ما يقع فيها من قولٍ أو فعلٍ‏.‏

وقال رجب بن أحمد‏:‏ يعني جميع المجالس ما وقع فيها من الأقوال والأفعال ملابس بالأمانات على أهلها دون الخيانة فلا يجوز إظهار ما فيها وإفشاؤه بين النّاس‏.‏

وقال الغزالي‏:‏ إفشاء السّرّ منهي عنه لما فيه من الإيذاء والتّهاون بحقّ المعارف والأصدقاء، قال النّبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا حدّث الرّجل الحديث ثمّ التفت فهي أمانة»‏.‏

وإفشاء السّرّ حرام إذا كان فيه إضرار، ولؤم إن لم يكن فيه إضرار‏.‏

وقال ابن مفلحٍ‏:‏ لا يجوز الاستماع إلى كلام قومٍ يتشاورون، ويجب حفظ سرّ من يلتفت في حديثه حذراً من إشاعته، لأنّه كالمستودع لحديث جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا حدّث الرّجل بالحديث ثمّ التفت فهي أمانة»‏.‏

واستثني من خطر إفشاء السّرّ ثلاثة مجالس، وردت في الحديث الّذي رواه جابر رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس‏:‏ سفك دمٍ حرامٍ، وفرجٍ حرامٍ، واقتطاع مالٍ بغير حقٍّ»‏.‏

قال الخادمي‏:‏ فيفشي ما سمع عمّا يتعلّق بإهراق دمٍ بغير حقٍّ، ويلحقه ما يتعلّق بالضّرب والجرح، ويفشي ما سمع عن الزّنا، وعن مجلسٍ يقتطع فيه مال مسلمٍ أو ذمّيٍّ بغير حقٍّ شرعيٍّ مبيحٍ، فيظهر ما يتعلّق بالسّرقة والغصب أو التّلف أو الإهدار، فلا يجوز للسّامع كتمه، قال في الفيض‏:‏ قال القاضي‏:‏ يريد أنّ المؤمن ينبغي إذا حضر مجلساً ووجد أهله على منكرٍ أن يستر عوراتهم ولا يشيع ما يرى منهم، إلا أن يكون أحد هذه الثّلاثة فإنّه فساد كبير وإخفاؤه ضرر عظيم‏.‏

مجالس اللّهو

11 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه لا يجوز حضور مجلس اللّهو إذا كان فيه معصية‏.‏

قال ابن العربيّ في تفسير قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ‏}‏ هذا دليل على أنّ مجالسة أهل الكبائر لا تحل‏.‏

وقال البخاري‏:‏ كل لهوٍ باطل إذا شغله عن طاعة اللّه، قال ابن حجرٍ‏:‏ كمن التهى بشيء من الأشياء المطلقة سواء كان مأذوناً في فعله أو منهياً عنه، كمن اشتغل بصلاة نافلةٍ أو بتلاوة أو ذكرٍ أو تفكرٍ في معاني القرآن مثلاً حتّى خرج وقت الصّلاة المفروضة عمداً، فإنّه يدخل تحت هذا الضّابط، وإذا كان هذا من الأشياء المرغّب فيها المطلوب فعلها فكيف حال ما دونها‏.‏

وتفصيل الأحكام المتعلّقة باللّهو في مصطلح‏:‏ ‏(‏لهوٌ ف 3 وما بعدها‏)‏‏.‏

مجلس القضاء

12 - مجلس القضاء يستقبل القاضي فيه الخصوم ووكلاءهم والشهود، ويستمع إلى دعاويهم وحججهم ويصدر فيه الأحكام‏.‏

ولهذا المجلس آداب وأحكام فقهيّة، تتعلّق بالمكان، وبالقاضي، والمتقاضين، ووكلائهم، وبالشّهادة والإقرار فيه، وبمن يحضره‏.‏

والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏قضاء ف 32 37 وما بعدها‏)‏‏.‏

مَجْلِس الحُكْم

التّعريف

1 - مجلس الحكم‏:‏ مركّب إضافي من كلمتين‏:‏ هما مجلس وحكم‏.‏

والمجلس في اللغة‏:‏ موضع الجلوس والحكم مصدر‏:‏ حكم‏.‏

ومن معانيه‏:‏ القضاء والعلم والفقه‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ مجلس الحكم هو المكان الّذي يقعد فيه القاضي لفصل القضاء وإصدار الحكم‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

مجلس العقد‏:‏

2 - مجلس العقد‏:‏ هو الاجتماع للعقد، جاء في مجلّة الأحكام العدليّة مجلس البيع‏:‏ هو الاجتماع الواقع لعقد البيع‏.‏

الأحكام المتعلّقة بمجلس الحكم

3 - ذهب الفقهاء إلى أنّه ينبغي للقاضي أن يجعل مجلس حكمه في موضعٍ بارزٍ للنّاس لا يكون دونه حجاب بغير عذرٍ، وأن يكون في وسط البلد ليتساوى النّاس في القرب منه، وأن يكون واسعاً فسيحاً غير ضيّقٍ، وأن يكون في أشهر الأماكن ومجامع النّاس، وأن يكون مصوناً عمّا يؤذي من حرٍّ وبردٍ وريحٍ، وأن يكون مناسباً للقضاء، وأن لا يحتجب القاضي بغير عذرٍ‏.‏

اتّخاذ المساجد مجلساً للحكم

4 - اختلف الفقهاء في اتّخاذ المساجد مجلساً للحكم‏:‏

فقال جمهور الفقهاء‏:‏ يجوز أن يتّخذ القاضي المسجد مجلس حكمه بل ينبغي أن يجلس في المسجد الجامع، وجاء في المدوّنة‏:‏ القضاء في المسجد من الأمر القديم وهو الحق‏.‏

قال مالك‏:‏ لأنّه يرضى فيه بالدون من المجلس وهو أقرب على النّاس في شهودهم، ويصل إليه الضّعيف والمرأة، يدل على ذلك أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يفصل الخصومات في المسجد، وكذا الخلفاء الرّاشدون كانوا يجلسون في المساجد لفصل الخصومات‏.‏

ولأنّ القضاء عبادة فيجوز إقامتها فيه كالصّلاة، والأحسن أن يكون مجلس قضائه حيث الجماعة‏:‏ جماعة النّاس وفي المسجد الجامع إلا أن يعلم ضرر ذلك بالنّصارى وأهل الملل، والنّساء الحيّض فيجلس في رحبة المسجد، وقال سحنون‏:‏ فإن دخل عليه ضرر بجلوسه في المسجد لكثرة النّاس حتّى شغله ذلك عن النّظر والفهم فليكن له موضع في المسجد يحول بينه وبينهم حائل‏.‏

وعند الجمهور يجوز له أن يجلس في داره فإن دعته ضرورة فليفتح أبوابها وليجعل سبيلها سبيل المواضع المتاحة لذلك من غير منعٍ ولا حجابٍ‏.‏

وحكي عن مالكٍ‏:‏ لا بأس أن يقضي القاضي في داره وحيث أحبّ‏.‏

وقال صاحب تبصرة الحكّام وعزاه إلى صاحب تنبيه الحكّام‏:‏ يكره للقاضي الجلوس في منزله للقضاء والحكم‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ يكره اتّخاذ المسجد مجلساً للحكم، لأنّ مجلس القاضي لا يخلو عن اللّغط وارتفاع الأصوات، وقد يحتاج لإحضار المجانين والأطفال والحيّض والكفّار والدّوابّ والمسجد يصان عن ذلك‏.‏

فإن اتّفقت قضيّة أو قضايا وقت حضوره في المسجد فلا بأس بها‏.‏

وإن جلس في المسجد مع الكراهة أو دونها منع الخصوم من الخوض فيه بالمخاصمة والمشاتمة ونحو ذلك، بل يقعدون خارج المسجد، وينصب من يدخل عليه خصمين خصمين‏.‏

أمّا ما يتعلّق بمعاملة القاضي في مجلس الحكم بالخصوم من تسويةٍ في كلّ شيءٍ وتأديب من أساء الأدب في مجلس الحكم وعلاقته بالشهود فيرجع إلى مصطلح‏:‏ ‏(‏قضاء ف 41 – 44، وشهادة ف 36 وما بعدها، وشهادة الزور ف 5 - 8‏)‏‏.‏